بين العولمة والفلسفة - الدكتور علي عبد الهادي المرهج
الدكتور علي عبد الهادي المرهج(*)
(خاص للمعهد)
تفهم العولمة على انها محاولة للقضاء على الهويات ومحاولة دمجها في هوية واحدة هي الهوية التي تقتضيها الشركات العولمية التي تقودها الولايات المتحدة.
تسيطر هذه الشركات على اكبر راس مال في العالم وعلى مصادر التقنية، ومحاولة تيسير وتسهيل حركة الاقتصاد ورأس المال، تحقيق هذا الهدف يتم عن طريق اغراء العالم بالمظاهر الجديدة حيث التقنيات التي جعلت العالم قرية واحدة يستطيع فيها الانسان ان يعرف ما يحصل في العالم في التو واللحظة، ويهيء له سبل المعرفة الجديدة والمتغيرات العالمية، وهذا يعد من الانجازات المهمة للعولمة في عصرنا الحالي، لكن ما يكتنف هذا الانجاز هو محاولة الغاء الاخر واعلان سيطرة القطب الواحد، أي سيطرة الفكر والثقافة ومظاهر الحياة الامريكية، وايصال العالم الى النظام الليبرالي الراسمالي الجديد الذي هو مصدر رفاهية الفرد وعلى الجميع الانسياق او الالتحاق بهذا النظام. لدرجة اصبح فيها العالم كله يخشى على حضارته من الزوال، فقد ضاع مفهوم الحقيقة واصبح الانسان في حيرة من امره، فهو اما ان يكون مع النظام العولمي او ضده، فاذا كان معه تحقق ما ارادته العولمة من مسخ للهوية، واذا كان ضده انصب عليه ضغط النظام الاقتصادي العولمي، فالان البقاء للاقوى مثلما صرح بذلك من قبل دارون، فالعولمة تريد من الانسان ان يرتاب في مفهوم الحقيقة بالخلط بين العالمي الذي تريده الفلسفة والعولمي الذي تريده الامركة.
شرعت الفلسفة ومنذ نشأتها للمفهوم السلطوي، فكان من قبل افلاطون يريد تاسيس جمهوريته المثلى على حساب الضعفاء، واوغسطين اراد بعد افلاطون تاسيس «مدينة الله»التي تقوم على فكرة اغتصاب الانسان لعرش الله. وما كان هيجل ليختلف عن سابقيه حينما اعلن نهاية التاريخ بتحقق«الروح المطلق» في ذات الفرد الالماني والدولة الالمانية العظمى وتاسيس المركزية الاوربية، وما على العالم الاخر الا اللحاق بهذه المركزية.
انه حلم الفلسفة الذي استغله اصحاب الاقتصاد لتبرير حاجاتهم ورغباتهم وتحصيل الربح الاعلى ونهب خيرات العالم وتحويله الى عالم استهلاكي يعتمد على قلة قليلة هي المنتجة.
اذن يمكننا القول ان العولمة هي الغاء لهويات شعوب لصالح شعب يمتلك كثير من اليات السطو والغلبة، فاذا كان مفهوم الهوية يعني «ما به يكون الشيء نفسه» فان هذا المفهوم لم يعد له اهمية في زمن العولمة، لان الشيء لايكون نفسه بل هو غيره، فبعد ان كان ما يميز الهوية التفرد والتميز، اصبح مع العولمة التماثل والتشابه بين الثقافات هو هوية العولمة، واذا كانت الهوية «مطابقة الشيء لنفسه» فقد اصبح مع العولمة مطابقة الشيء للاخر، واصبح مفهوم «التذاوت» مع الاخر هو الذي يحكم زمن العولمة فمنطقها هو ان يجتمع النقيضان معا، وبعد ان كان من قوانين المنطق الثالث المرفوع، أي اما ان يكون الشيء هو هو واما ان يكون غيره، اصبح مع العولمة من الممكن ان يكون الشيء هو وغيره معا، انه تقويض لقوانين المنطق وتجاوز للعقل لفرض نظام القطب الواحد.
العولمة بين الحداثة وما بعد الحداثة
حاول الفكر الاوربي وما زال يحاول التغيير واحداث التطوير والانتقال من عصر الى عصر اكثر تطورا واكثر تعبيرا عن حياتهم لاسيما العلمية التي تتميز بقفزات سريعة لاسيما في مجال التكنولوجيا التي اصبحت اكثر تطورا وتسارعا في التغيير من العلم الذي انتج التكنولوجيا.
ابان القرن السابع عشر بدأت الثورة المعرفية مع فرنسس بيكن ورينيه ديكارت اللذين نقلا المعرفة من الاهتمام بانطولوجيا الطبيعة الى الاهتمام بانطولوجيا الانسان واعتبار الانسان محور البحث الفلسفي، فقد اصبحت الذات مع ديكارت هي مصدر المعرفة، والوجود يستنبط منها، وبالتالي الانتقال من ميتافيزيقيا الوجود الى ميتافيزيقا الذات، واصبح العقل الانساني هو محور النظام المعرفي ومصدر اليقين المنطقي، اذ مع ديكارت بدأ تمجيد العقل والنزعة العقلانية والاعلاء من شأن التقدم الاحادي والاقرار بالحقائق المطلقة.
اصبح هذا الجانب هو ما يشكل احد سمات عصر الحداثة الذي تعلق بفكرة النسق والذي يحاول اصحابه تفسير العالم تفسيرا شموليا، فالذات الديكارتية شكلت قاعدة الحداثة في مجال الفكر الفلسفي، فما الحداثة الا «انتصار لذات ورؤية ذاتية للعالم»(1) فالانسان اصبح في عصر الحداثة مثل المرآة والعالم يفسر من خلاله، واذا كان ديكارت مؤسس الذاتية عن طريق الكوجيتو الذي عده اساسا لليقين، فان لايبنتز هو مؤسس الحداثة الفلسفية على مبدأ العقلانية وتأكيد القول بان لكل شيء سبب معقول ولابد لنا ان نبني نظامنا المعرفي على هذا الاساس، أي ان للعالم اسبابا معقولة، وبالتالي جعل العلم من حيث هو ممثل للعالم بطريق الملاحظة والتجريب نموذجا للقول الفلسفي وقدوة له، واصبح العلم هو الموجهة للفلسفة بعد ان كانت الفلسفة هي الموجهه للعلم، ايضا اصبح مفهوم الكلية الذي يعني النظرة الشاملة للاشياء معيارا للقول الفلسفي، وبذلك اصبح عصر الحداثة هو عصر العلم وعصر الانساق الميتافيزيقية وعصر النظرة الشمولية للعالم.
اما بالنسبة لحركة ما بعد الحداثة فقد جاءت رد فعل تجاه الحداثة، ففي عصر الحداثة اصبحت مقولة الانسان كائناً مرآوياً هي الاساس، اما فكر ما بعد الحداثة فهو على حد تعبير احد كبار فلاسفته – ريتشارد رورتي 1931 – «فقد هجرت (فيه) مقولة الانسان باعتباره جوهرا مرآوياً يملك القدرة على معرفة باقي الجواهر الاخرى»(2)، بمعنى اخر ان فكر ما بعد الحداثة يدعوا الى الابتعاد عن التحديد الميتافيزيقي لمفهوم الانسان وينقد فكرة النسق الذي يجعل من الذات اساسا للمعرفة الكلية، او نقد فكرة ان تكون الذات متطابقة مع العالم وان العالم يفسر من خلالها، ففكر ما بعد الحداثة يرى ان هذا التطابق «يفقد الانسان انسانيته ويتحول الى صورة إله»(3) وبالتالي نقد الاتجاهات الدينية والاعلاء من شأن الاتجاهات العلمانية.
اذن ففكر ما بعد الحداثة يدعوا الى التخلص من الحقائق المطلقة ومن العقلانيات الدوغمائية. انه عصر «التنوع والاختلاف والتشظي والتفتت»(4)، وقد حدد ايهاب حسن احد مؤسسي فكر ما بعد الحداثة في كتابه الصادر 1978 (التحول ما بعد الحداثي) ثلاث صفات لعصر ما بعد الحداثة.
1- انه فكر يرفض الشمولية التي مثلتها الفلسفات النسقية، مركزا على الجزئيات والهوامش.
2- ينبذ اليقين المعرفي برفض المنطق التقليدي القائم على تطابق الدال والمدلول أي تطابق الاشياء والكلمات.
3- يلح فكر ما بعد الحداثة على اسقاط نظم السلطة الفكرية في المجتمع وفي الادب والفن والعلوم والاطاحة بمشروعية القيم المفروضة من فوق في الانظمة والمؤسسات الاجتماعية كافة(5).
ارتبط فكر فلاسفة ما بعد الحداثة بفلسفة نيتشه التي تؤكد على ضرورة القضاء على ما تبقى من قيم العالم الحديث عن طريق الاسهام في هدم القيم البالية وفضح النزعة المثالية ونقض الميتافيزيقيا. فضلا عن تبشير نيتشه بقيم جديدة تمليها ارادة الانسان الاعلى اذ يقول " لقد ماتت الالهه وما يجب علينا ان نفعله هو ان نساعد الانسان الاعلى Superman على ان يعيش ويحيا"(6).
ذلك الانسان السوبرمان اصبح مع دعاة العولمة هو الانسان الاقتصادي المرتبط بالمال والارض، وما بعد الحداثة في احد اوجهها كما يرى فردريك جمسون احد نقاد فكر ما بعد الحداثة انها " كلمة تنطوي على مفهوم التمرحل الذي تكون مهمته منصبة على بروز سمات شكلية جديدة في الثقافة، وبروز نمط جديد من الحياة الاجتماعية، ونظام اقتصادي جديد يعرف غالبا ما بعد الصناعي او الاستهلاكي "(7)، كما وصف جمسون ما بعد الحداثة بانها " هيمنة ثقافية او رد فعل تجاه الحداثة وعلى تحول حاسم من الاحتكار الى الراسمالية متعددة الجنسيات "(8). فيما يرى بيتر بروكر انه " اذا اعتبرنا ما بعد الحداثة حالة تاريخية، فانها مرتبطة بصورة وثيقة بحقائق القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتؤكد على النفوذ الثقافي الحضاري التام لامريكا والغرب "(9)، اذن فكثير من الكتاب يرى ان العولمة هي " احدى اللبنات الفكرية لحركة ما بعد الحداثة جاءت لتعبر عن التغييرات التي تشهدها الحياة "(10)، لكن الذي يمكن قوله في هذا الصدد ان العولمة تقع ما بين الحداثة وما بعد الحداثة، فهي تأخذ من الحداثة وجهها السلطوي، فالحداثة عدت الذات مركز العالم، والعولمة عدت امريكا مركز العالم او ان الوجه الحقيقي للعالم هو الوجه الليبرالي، بمعنى اخر ان هناك دول مركز ودول هامش، وعلى الهامش ان يسعى دوما الى اللحاق بالمركز على حساب ان المركز يشكل النموذج او المثال الذي يجب ان يقتدى به.
اما من ناحية علاقتها (العولمة) بما بعد الحداثة فيمكن القول ان العولمة ترتبط بما بعد الحداثة كونها تحاول مسخ الهويات وازالتها وذلك عن طريق الايهام حول مفهوم الحقيقة، فهي تدعوا الى التنوع والاختلاف وهذه السمات هي من سمات فكر ما بعد الحداثة، الا ان اصحاب العولمة هم من يمتلك التقنية ورأس المال الذين يساعدان في انتشار الثقافة، وامريكا هي من يمتلك هذه التقنية ويسيطر على اكبر رأس مال في العالم، وبالتالي فهي تحاول ان تؤثر في المجتمعات والدول بحيث تروج لثقافتها وتكثر من سيطرتها.
اذن السؤال القائم هو هل العولمة نظام؟
وللاجابة عن هذا السؤال يجب ان نعرف النظام، فكلمة النظام تعني: ترتيب الاشياء المبعثرة على اسس منطقية متناغمة وفق قواعد موضوعية محددة. والمقصود بالنظام العالمي هو مجموعة المبادئ والاهداف والنظم التي تقوم عليها العلاقات بين الدول، ويمكن تعريف النظام بشكل مطلق بانه مجموعة القواعد التي تحكم ظاهرة ما، اما النظام الدولي فهو يقوم على قاعدة رضائية واسعة تشمل الاغلبية الساحقة من المجتمع الدولي، قائم على المساواة وحق الشعب في تقرير مصيره(11). اما العولمة بوصفها فكرة فهي قائمة على اسقاط لفكرة النظام او النسق، اما بوصفها واقعا فهي دعوة لسيادة النمط او النظام الامريكي، لذلك قال فوكوياما بنهاية التاريخ وتحقق الدولة الكاملة التي على الدول الاخرى الاتساق معها او الانسياق في نظامها، الكوني الذي اثبت انه الاجدر بعد فشل الاشتراكية السوفيتية في الحفاظ على نظامها فبعد تجريب جميع انوع الحكم فقد اثبت الشكل الديمقراطي الليبرالي والنظام الراسمالي نجاحه، ومثلما آمن هيجل وماركس بان التطور المضطرد للمجتمعات البشرية لايصل الى ما لانهاية انما هو محكوم بتوصل الانسان الى شكل محدد لمجتمعه يرضي احتياجاته الاساسية، وعندما يتم التوصل الى هذا الشكل يتوقف التطور، او بمعنى اخر يصل التاريخ الى نهايته ويكون هناك نموذج سائد هوالنموذج النهائي(12).
الهوامش
ـــــ
(*) استاذ الفلسفة المساعد في الجامعة المستنصرية، بغداد.
(1) مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة، حوارات منتقات من الفك الالماني المعاصر، ترجمة محمد الشيخ، ياسر الطائي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1996،ص12.
(2) ريتشاد رورتي، الفلسفة النسقية، ترجمة عبد المعنم البري، مجلة فكر ونقد المغربية، عدد 14 لسنة 1998، ص48.
(3) المصدر نفسه، ص49.
(4) مقاربات في الحداثة، مصدر سبق ذكره، ص11.
(5) باسم علي خريسان، العولمة والتحدي الثقافي، دار الفكر، بيروت، ط1، 2001، ص113.
(6) مقاربات في الحداثة، ص181 .
(7) فردريك جمسون، ما بعد الحداثة والمجتمع الاستهلاكي، مجلة قضايا وشهادات، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، عدد 3، شتاء 1993، ص369 ..
(8) بيتر بروكر، الحداثة وما بعد الحداثة، ترجمة عبد الوهاب علوب، منشورات المجمع الثقافي، الامارات،ط1، 1999، ص47. من الجدير بالذكر الاشارة طبيعة الشركات متعدية الجنسية: تقوم هذه الشركات بعقد اتفاقيات مع الدول تخولها حق مقاضات الحكومات للحصول على فؤاد التعويض، كلما انتهجت هذه الحكومات سياسة ان تحد من امتيازات الربح العائدة للشركات، لدرجة تتحول فيها الحكومات حامية لمصالح هذه الشركات.
(9) بيتر بروكر، المصدر السابق، ص53.
(10) باسم علي خريسان، المصدر السابق، ص113.
(11) د. ابراهيم ابو خزام، العرب وتوازن القوة في القرن الحادي والعشرين، الدار الجماهيرية، ليبيا،ط1، 1995، ص.
(12) اشارة فوكوياما الى تاثره الذين ذهبوا الى القول بنهاية التاريخ لاسيما هيجل، ينظر: نهاية التاريخ، فوكاياما، ترجمة حسين الشيخ، دار العلوم العربية، بيروت، ط1، 1993، ص74.
http://www.alhadhariya.net/dataarch/dr-alhadharawalnahdha/index27.htm
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن، صلواتك عليه و علي آبائه، في هذه الساعة و في کل ساعة، ولياً و حافظاً و قائداً و ناصراً و دليلاً و عيناً، حتي تسکنه أرضک طوعاً و تمتعه فيها طويلاً ×××××××××××××××××