في الحوار والوحدة > محاضرة "ندوة العمل الوطني"

 

مع السيد محمد حسين فضل الله، حلّق الحضور بفكرهم إلى حيث يفتح الحوار باب الإنسان والإنسانية، فتنتفي الهوية والمكان ـ ولو أنه ملجأ أرضي في عائشة بكار ـ وتجد نفسك في حاضرة محدّث يلامس العناوين من أطرافها فيجذب السامعين إلى جلسة فكرية تنتفي معها الألقاب ويصبح الكل تلميذاً في مدرسة "سيد الكلام".

الإسلام، العولمة، حوار الحضارات. ثلاثة عناوين اجتهادية مثيرة للجدل تحدث عنها السيد فضل الله على مدى تسعين دقيقة بدعوة من ندوة العمل الوطني في مقرها بحضور رئيسها الدكتور سليم الحص وحشد من المهتمين ضاقت بهم القاعة الصغيرة في المبنى نفسه الذي يقطنه رئيس الحكومة .

قدم للمحاضر الدكتورة نهى الحسن وألقى السيد فضل الله محاضرة قال فيها: أن نتحدث عن الإسلام والعولمة وحوار الحضارات في عالم يمثل اسم أي دين فيه حساسية قد يحسبها البعض مما يرهق العقل وقد ينطلق البعض للقول إن علينا الاستغناء عن الدين لأنه المسؤول عن مشاكل الإنسان، والمشكلة أن الذين يتحدثون عن الدين اعتبروه شيئاً محنطاً ولا مكان فيه للعقل.. إنني أتصور الإسلام عقلاً لأنني أتصور الإيمان عقلاً ومشكلة الكثيرين من الناس الذين يلحدون ويفكرون أنهم لا يملكون أي دليل على الإلحاد، وكل ما لديهم أنهم لا يملكون دليلاً على وجود الله، لكن نفيهم يحتاج إلى دليل كما الإثبات يحتاج إلى ذلك.. من هنا كان الإسلام من خلال العقل والعلم يؤمن بأن الحقيقة هي بنت الحوار والحوار يبدأ في البداية مع النفس، حيث على الإنسان أن يحاور نفسه ليفهمها أكثر في ما تنتجه من فكر وفكر آخر، لأن الكثير منا قد يعيش ازدواجية الشخصية حيث يعيش الفكر وضده، والإحساس وضده، لأن الإنسان مفتوح على التأثيرات الخارجية، ولذلك جعل الإسلام الحوار أساساً، ولذا عليك أن تضع الأرضية المشتركة بينك وبين الآخر لتشعر بأن هناك وحدة حتى تستنفر في داخلك وداخله الأرضية المشتركة، ولعل مشكلتنا في لبنان والشرق المليء بالعصبيات أننا نبحث عما يفرقنا لنهدم ما يوحدنا بعد ذلك بدلاً من العكس.

أضاف فضل الله: إن الإسلام لم يلغ الآخر، بل اعترف به عندما انطلق إلى العالم ولم تكن العالمية مسألة طارئة عنده، بل هو صنع ثقافة حضارية جديدة في الأندلس وفتح الغرب على ثقافة التجربة بعد أن كان ينفتح على التأمل فقط بتأثير من أفلاطون وهكذا لم يخف الإسلام من العالم ولم يخفه لأنه انفتح عليه من خلال العقل الذي إذا خاف من عقل آخر يكون متعصباً وشيطنةً وليس عقلاً.

وأخذ على البعض أنهم ينظرون نظرة سلبية مطلقة للعولمة بكل تفرعاتها، وقال: ليس هناك سلب مطلق أو إيجاب مطلق في العالم، فالله وحده هو المطلق، وإذا كان الحديث عن سلبية العولمة يتناول مسألة الهوية، فهل رأينا منذ نشأة العالم حتى الآن خطاً ثقافياً استطاع نزع الهوية عن إنسان. إننا نرى القضية بالعكس، فالهوية هي التي تمثل الخطر على الفكر العام وليس العكس، فالعادات والتقاليد تحولت إلى جزء من الذات حتى بتنا نتصور كثيراً من العادات ديناً، ولذلك نحن المسلمين لا نخاف من العولمة، فعندما نملك عقلاً وتنطلق الروح من العقل وعند ذلك لتأتي أي ثقافة أخرى، فالعقل يقابل العقل ولكن مشكلتنا هي في الثقافة والسياسة والأمن ـ وهذه ظاهرة ـ حيث نريد أن نكون أقوياء بضعف الآخرين، لأننا نخاف أن نكون أقوياء، ومن الطبيعي عندما لا نملأ الفراغ فسيملأه غيرنا لأن الحياة لا تتحمل فراغاً من أي نوع كان.

وعن حوار الحضارات قال فضل الله: لا مشكلة عندنا في هذا الحوار، ونحن نعتقد أنه لن ينتصر أحد باضطهاد حرية الفكر الآخر، وربما هو يخنق شيئاً من حركته، لكن الاضطهاد يعطيه قوة جديدة، فإذا أردت أن تعطي الفكر حريته تحجمه وإذا اضطهدته تعطيه صفة الفكر الشهيد فتساهم في امتداده لأن الناس يحبون شهداء الفكر كما الجهاد، وحوار الحضارات هو ليس غلبة حضارة على أخرى، بل أن تعطي كل حضارة الأخرى بما لا يتنافى مع أصولها.

أضاف: نحن نملك عقولاً تنتج وتبدع فلماذا نختار دائماً الاستهلاك على أنواعه. لقد قتلتنا مجتمعات الاستهلاك والجميع يريدوننا من خلال العولمة أن نبقى المستهلكين وأن نستهلك أنفسنا، ومشكلتنا هي في الشعوب التي هي أصداء وظلال.. وقال: لنجرب في مرحلة نرجو أن تكون جديدة وأن لا نكون استهلاكاً لما عشناه من استهلاك، وأن لا نحوّل انتصاراتنا إلى هزائم وأن ننتج أنفسنا وسياستنا وثقافتنا واقتصادنا.

وقدم الرئيس الحص مداخلة قال فيها: إن البعض يقول إن العولمة ليست مدرسة جديدة، بل مدرسة سابقة ذات طبيعة روحية بقدر ما كانت تسعى الأديان (الإسلام، المسيحية، واليهودية) إلى تعميم نفسها في العالم، أما الآن فنحن أمام عولمة مادية يقال عنها إنها مدرسة تصادم المدارس الأخرى ولا تتعايش معها وتحاول أن تلغيها.

وأجاب فضل الله مؤيداً وقال: إن الفكر الديني دخل في صراع وحوار مع الفكر المادي، وكما انتصر في أكثر من معركة وحوار، فإن التجربة تدعونا لكي نعاودها مجدداً، وأنا أعتقد أنه عندما نخلص لإنسانيتنا لا يستطيع الماديون العدوانيون إلغاء هذه الإنسانية.

ورداً على سؤال قال فضل الله: إن القلق لدى الشباب اللبناني هو حالة إيجابية، وعلينا إذا وضعنا أنفسنا في موقع التوعية أن نحتضن هذه القلق لنخرج الشباب من القلق السلبي إلى القلق الإيجابي، وهناك طرفة قلتها لإحدى الصحف الأجنبية حول مدى إمكانية عودة اللبنانيين للتعايش مع أنفسهم بعد الحرب، ومفادها أن اللبناني تاجر، والتاجر ينسى الخسارة إذا التقى بالربح، وقيمة لبنان هي إنسانه المر ولا يستطيع أحد تعليبه.

 المحاضرة  الفكرية  لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، في مقر "ندوة العمل الوطني" في بيروت - عائشة بكار، وقد نشرت على صفحات جريدة السفير اللبنانية بتاريخ24/محرم/1421هـ،الموافق:28/4/2000م